الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
قال: وإذا آمن المسلمون رجلاً على أن يدلهم على كذا ولا يخونهم فإن خانهم فهم في حل من قتله فخرج عليهم من مدينته أو حصنه على ذلك حتى صار في أيديهم ثم خانهم أو لم يدلهم فاستبانت لهم خيانته فقد برئت منه الذمة وصار الرأي فيه إلى الإمام إن شاء قتله وإن شاء جعله فيئاً لأن الشرط هكذا جرى بينهم فقال عليه السلام: " المسلمون عند شروطهم " وقال عمر رضي الله عنه الشرط أملك أي: يجب الوفاء به ولأنه كان مباح الدم علقوا حرمة دمه بالدلالة وترك الخيانة وتعليق أسباب التحريم بالشرط صحيح كالطلاق والعتاق فإن انعدم الشرط بقي حل دمه على ما كان ولأن النبذ بعد الأمان والإعادة إلى مأمنه إنما كان معتبراً للتحرز عن الغدر وبالتصريح بالشرط قد انتفى معنى الغدر. واستدل عليه بحديث موسى بن جبير قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكتيبة أربع عشر يوماً يعني حصناً من حصون خيبر وكان آخر حصونهم فلما أيقنوا بالهلكه سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلح فأرسل إلى ابن أبي الحقيق: انزل فأكلمك فقال: نعم فصالحه على حقن دمائهم ويخرجون من خيبر وأرضها ويخلون بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال أو أراض وعلى الصفراء والبيضاء والحلقة وعلى البز إلا ثوب على ظهر إنسان قال: وبرئت منكم ذمة الله إن كتمتموني شيئاً فصالحوه على ذلك ثم كتم ابن أبي الحقيق آنية من فضة ومالاً كثيراً كان في مسك الجمل عند كنانة ابن أبي الحقيق وهذه كانت أنواعاً من الحلي كانوا يعيرونها أهل مكة ربما قدم القادم من قريش فيستعيرها شهراً للعرس يكون فيهم فكان ذلك يكون عند الأكابر فالأكابر من آل أبي الحقيق حتى ذكر في المغازي أنه ضاع منها شيء مرة بمكة فغرم من ضاع على يده قيمة ذلك عشرة آلاف دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين الآنية والأموال التي خرجتم بها من المدينة حين أجليتكم فقالوا: ذهبت في الحرب يا أبا القاسم إنما كنا نمسكها لمثل يومنا هذا فلا والله ما بقي عندنا منها شيء وحلفوا على ذلك فقال: أفرأيتم إن وجدته عندكم أقتلكم قالوا: نعم وفي رواية قال لكنانة وربيعة ابني أبي الحقيق: برئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كان عندكما قالا: نعم قال: فكل ما أخذت من أموالكم فهو حلال لي ولا ذمة لكما قالا: نعم قال: فأشهد عليهما أبا بكر وعمر وعلياً والزبير وعشرة من يهود فقام يهودي إلى كنانة فقال: إن كان عندك أو تعلم علمه فأعلمه لتأمن على دمك فوالله ليطلعن عليه فقد اطلع على غير ذلك مما لم يعلمه أحد فزبره ابن أبي الحقيق فتنحى اليهودي فقعد ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما إلى الزبير بن العوام أن يعذبهما ويستأصل ما عندهما فعذب كنانة حتى أجافه فلم يعترف بشيء ويحتمل أن يكون هذا قبل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة وإن كان بعد ذلك فيحتمل أنه فعل ذلك على سبيل السياسية ليظهر الأمر ويتم الزجر في حق غيره عن مثل هذا التلبيس. قال: فاعترف ربيعة بن أبي الحقيق فقال: قد رأيت كنانة يطوف كل غداة بهذه الخربة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حتى حفرها واستخرج منها ذلك الكنز وفي رواية: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق وكان رجلاً ضعيفاً مختلط العقل قال: ليس لي علم غير أني كنت أرى كنانة كل غداة يطوف بهذه الخربة فإن كان شيئاً دفنه فهو فيها فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك الخربة فحفر فوجد ذلك الكنز فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يدفع كنانة بن أبي الحقيق إلى محمد بن مسلمة لقتله بأخيه محمود بن مسلمة فقد كان هو الذي دلى على محمود الرحى وإنما استحل دماءهما وسبى ذراريهما لمكان الشرط الذي جرى بينه وبينهما فسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب وكانت تحت كنانة ومعها ابنة عمها لم يسب من أهل خيبر غيرهما وكان قد وعد دحية الكلبي من سبي خيبر فسأله أن يعطيه صفية فأعطاه مكانها ابنة عمها وأمسك صفية لنفسه وهي عروس بحدثان ما دخلت على زوحها وذكر في المغازي أنها كانت رأت في منامها في بعض تلك الليالي أن القمر وقع في حجرها من السماء فلما أصبحت قصت رؤياها على كنانة فلطمها لطمة على وجهها وقال: أتريدين أن تكوني زوجة محمد ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يذهب بها إلى رحله فسر بها وسط القتلى فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ذهبت بجارية حديثة السن إلى القتلى لقد ذهبت منك الرحمة فاعتذر بلال وقال: يا رسول الله ما مررت بها إلا إرادة أن ترى مصارع قومها ولم أدر أنك تكره يا رسول الله وذكر في المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها فتزوجها فأمر أم أيمن أن تصلحها له فبنى بها في الطريق قبل أن ينتهي إلى المدينة وكانت لها منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب ذلك ما روي أنه لما قرب بعيرها لتركب بعدما بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يركبها بنفسه فأمرها أن تضع رجلها على فخذه وتركب فوضعت ركبتها على ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعظمت وضع رجلها على ركبته وإن كان بأمره فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منها وبعدما قدموا المدينة دخلت عائشة متنكرة مع النساء منزلها لتراها فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة من نساء عشيرتها فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بين من دخل من النساء ولم يذكر لها شيئاً حتى عادت إلى منزلها ثم جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف رأيت صفية فقالت: ما رأيت شيئاً غير ابنة يهودي بين يهوديات ولكني سمعت أنك تحبها فقال: لا تقولي يا عائشة فإني لم أر في وجهها كبوة حين عرضت عليها الإسلام ثم روي أنه كان إذا اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم معها في موضع يخاطبنها يا ابنة اليهودي فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إذا قلن لك هذا فقولي: من منكن مثلي أبي نبي وعمي نبي وزوجي نبي " فإنها كانت من أولاد هارون عليه السلام فلما قالت ذلك لهن قالت عائشة رضي الله عنها: ليس هذا من كيسك يا ابنة اليهودي. ومن جوز التنفيل بعد الإصابة استدل بإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم دحية ابنة عم صفية ولكن تأويل ذلك ما قال محمد: إن الكتيبة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصاً فلذلك أعطاه الجارية واستدل من جوز المعاملة بما ذكر في هذا الحديث في بعض الطرق أنهم قالوا: يا محمد نحن أرباب الأموال ونحن أعلم بها فلا تخرجنا عاملنا على النصف وتأويل ذلك لأبي حنيفة رحمه الله قد بيناه في أول كتاب المزارعة والله الموفق.
قال: وإذا نادى المسلمون أهل الحرب بالأمان فهم آمنون جميعاً إذا سمعوا أصواتهم بأي لسان نادوهم به العربية والفارسية والرومية والفبطية في ذلك سواء لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه كتب إلى جنوده بالعراق: إنكم إذا قلتم: لا تخف أو مترسي أو لا تذهل فهو آمن فإن الله تعالى يعرف الألسنة والمعنى ما أشار إليه فإن الأمان التزام الكف عن التعرض لهم بالقتل والسبي حقاً لله تعالى والله لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يخفى عليه خافية ثم فيما يرجع إلى المعاملات يعتبر حصول المقصود بالكلام من غير أن يختص ذلك بلغة وإنما اعتبر ذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في العبادات حيث لم يجوزا التكبير والقراءة بالفارسية لأن تمام الإسلام في وجوب مراعاة النص لفظاً ومعنى وهذا لا يوجد في المعاملات وإذا كان الإيمان يصح بأي لسان كان إذا حصل به ما هو المقصود وهو الإقرار والتصديق فالأمان أولى وكذلك التسمية على الذيحة تصح بأي لسان كان الحصول المقصود فالأمان أوسع من ذلك كله. وإن نادوهم بلسان لا يعرفه أهل الحرب وذلك معروف للمسلمين فهم آمنون أيضاً لأن معرفتهم لذلك حقيقة أمر باطن لا يمكن تعليق الحكم به فتعلق الحكم بالسبب الظاهر الدال عليه هو إسماعهم كلمة الأمان وهذا أصل كبير في الفقه ولهذا شرطنا الإسماع حتى إذا كانوا بالبعد منهم على وجه يعلم أنهم لم يسمعوا فإنه لا يكون ذلك أماناً لأن هذا ظاهر يمكن الوقوف عليه فيمكن تعليق الحكم بحقيقته ثم لعله كان فيهم ترجمان يعف معنى نداء المسلمين فيوقفهم على ذلك فلو لم يثبت الأمان به كان نوع غدر من المسلمين والتحرز عن صورة الغدر واجب يوضح الفرق أنهم إذا لم يفهموا فإنما كان ذلك بمعنى من المسلمين حيث نادوهم بلغة لا يعرفونها فلا يبطل به حكم الأمان في حقهم. فأما إذا كانوا بالبعد من المسلمين بحيث لا يسمعون كلامهم فإنهم لم يقفوا على مقالة المسلمين لمعنى من جهتهم وهو أنهم لم يقربوا من المسلمين فلهذا لا يثبت حكم الأمان لهم قال: وإذا قال المسلمون للحربي: أنت آمن أو لا تخف أو لا بأس عليك أو كلمة تشبه هذا فهو كله أمان لأنه إنما يخاطب الخائف بمثل هذا العبارات لإزالة الخوف عادة وإنما يزول عنه الخوف بثبوت الأمان وكل مسلم يملك إنشاء الأمان له فيجعل بهذا اللفظ منشئاً كمن يقول لعبده: أعتقتك أو أنت حر يجعل منشئاً عتقه بما وصفه ثم ذكر أمان مختلط العقل إذا كان يعقل الإسلام ويصفه وهو في ذلك بمنزلة الصبي الذي يعقل كما في أصل الإيمان وقد بينا الخلاف في أمان الصبي فكذلك مختلط العقل. فإن كان لا يعقل الإسلام ولا يصفه لا يجوز أمانه لأنه بمنزلة الصبي الذي لا يعقل وإن كان عاقلاً في أمر معيشته إلا أنه بالغ لا يصف الإسلام ولا يعقله فهذا بمنزلة المرتد والمرتد لا يجوز أمانه بخلاف الصبي فإنه مسلم تبعاً لأبويه أو لأحدهما وإن كان لا يصف الإسلام ولا يعقله فإذا كان بحيث يعقل الأمان صح أمانه عند محمد. قال: وإن أمر أمير العسكر رجلاً من أهل الذمة أن يؤمنهم أو أمره بذلك رجل من المسلمين فأمنهم فهو جائز لأن الأمير يملك مباشرة الأمان بنفسهن فيملك الذمي بعد أمره إياه بذلك وهذا لأن أمان الذمي إنما لا يصح لتهمة ميله إليهم اعتقاداً ويزول ذلك إذا أمره المسلم به ويتبين بأمر المسلم إياه أن في أمانه معنى النظر للمسلمين وهذا بخلاف ما إذا أمره بالقتال لأنه بأمره إياه بالقتال لا يتعين معنى الخيري في الأمان فلو تعين ذلك إنما يتعين برأي الكافر وهو متهم في ذلك ثم المسألة على وجهين: إما أن يقول له: أمنهم أو يقول: قل لهم إن فلاناً المسلم يؤمنكم وكل وجه من ذلك على وجهين إما أن يقول الذمي لهم: قد أمنتكم أو يقول: إن فلاناً المسلم قد أمنكم فأما إذا قال له المسلم: أمنهم فسواء قال لهم أمنتكم أو أمنكم فلان فهم آمنون لأنه صار مالكاً للأمان بهذا الأمر فيكون فيه بمنزلة مسلم آخر والمسلم إذا قال لهم: أمنتكم أو أمنكم فلان كانوا آمنين في الوجهين لأنه أضاف الأمان إلى من يملك إنشاءه فيكون ذلك إخباراً منه بأمان صحيح فيجعل في حكم الإنشاء لرفع الغدر فإن كان المسلم قال له: قل لهم: إن فلاناً أمنكم فإن كان على هذا الوجه فهم آمنون لأنه جعله رسولاً إليهم وقد أدى الرسالة على وجهها فيكون هذا بمنزلة ما لو كتب إليهم كتاب الأمان وبعث به على يده فإذا بلغهم كانوا آمنين وإن قال لهم: أمنتكم فهذا باطل لأنه خالف ما أمر به لأنه أمر بتبليغ الرسالة وهذا لا يتضمن تمليك الأمان منه فإذا قال أمنتكم فهذا ليس بتبليغ للرسالة ولكنه إنشاء عقد منه مضاف إلى نفسه وهو ليس من أهله فيكون باطلاً. قال: والأسير في دار الحرب إذا أمنهم لا يصح أمانه على غيره من المسلمين لأن أمانه لا يقع بصفة النظر منه للمسلمين بل لنفسه حتى يتخلص منهم ولأن الأسير خائف على نفسه وإنما يؤمن غيره من يكون آمناً في نفسه ولأنهم آمنون منه لكونه مقهوراً في أيديهم فعقده يكون على الغير ابتداء وقل ما تخلو دارهم عن أسير فلو صححنا أمانه انسد باب القتال علينا فإنهم كلما حزبهم خوف أمروا الأسير حتى يؤمنهم والقول بهذا فاسد إلا أنه فيما بينهم وبينه إن أمنوه وأمنهم فينبغي أن يفي لهم كما يفون لهم ولا يسرق شيئاً من أموالهم لأنه غير متهم في حق نفسه وقد شرط أن يفي لهم فيكون بمنزلة المستأمن في دارهم وإن كان في أيديهم عبد مسلم أو أمة مسلمة لم ينبغ له أن يعرض لهم في ذلك لأنهم لو أسلموا عليه كان سالماً لهم فحكم هذا وحكم سائر أموالهم سواء ولكن لا بأس بأن يأخذوا ما وجد في أيديهم من أسير حر مسلم أو ذمي أو مكاتب أو أم ولد أو مدين لمسلم و ذمي لأن هؤلاء لا يجري عليهم السبي ألا ترى أنهم لو أسلموا عليه لم يكن لهم فهم ظالمون في إمساكهم وهو بالأمان ما التزم تقريرهم على الظلم فكان له أن يزيل ظلمهم بالسرقة أو الغصب حتى يخرجهم وإنما يلزمه أن يراعي بالعهد ما يجوز إعطاء العهد عليه ولا يجوز إعطاء الأمان على ترك هؤلاء في أيديهم بعد التمكن من أخذهم منهم. ولو حصل المستأمنون في عسكر المسلمين غير ممتنعين منهم فبدا للأمير أن ينبذ إليهم فعليه أن يلحقهم بمأمنهم فإن أبوا أن يخرجوا وقالوا: نكون مع ذرارينا ونسائنا الذين أسرتموهم فإنه ينبغي للأمير أن يتقدم إليهم في ذلك على سبيل الإعذار والإنذار ويؤجلهم إلى وقت يتيسر عليهم اللحوق بمأمنهم في ذلك الوقت ولا يرهقهم في الأجل كيلا يؤدي إلى الإضرار بهم ويقول: إن لحقتم بمأمنكم إلى أجل كذا وإلا فأنتم ذمة نضع عليكم الخراج ولا ندعكم ترجعون إلى مأمنكم بعد ذلك فإن لم يخرجوا حتى مضت المدة كان ذلك دليل الرضا منهم بن يكونا ذمة فيكونا بمنزلة قبول عقد الذمة نصاً بمنزلة المستأمنين في دارنا إذا أطالوا المقام وإن خاف أمير العسكر إن لقي المسلمون عدوهم أن يغيروا على عسكرهم أو خاف أن يقتلوا المسلمين ليلاً فإنه يأمرهم بأن يلحقوا بمأمنهم ويوقت لهم في ذلك وقتاً كما بينا نظراً منه للمسلمين ثم يأمرهم في كل ليلة حتى يمضي ذلك الوقت أن يجمعوا في موضع فيحرسوا لأن الخوف منهم يزداد بالتقدم إليهم في الخروج ومفارقة النساء والذراري والتوقيت كان نظراً منه لهم فينبغي أن ينظر للمسلمين كما ينظر لهم وطريق النظر هذا فإن مضى ذلك الوقت فصاروا ذمة أمر بهم أن يجمعوا في موضع كل ليلة ويجعل عليهم حراساً حتى يخرجوا إلى دار الإسلام لأن الأمن لم يقع من جانبهم وإن جعلهم ذمة بمضي الوقت بل ازداد الخوف بما ألزمهم من صغار الجزية إلا أن الخوف يكون بالليل غالباً فيجعل عليهم حراساً كل ليلة فإذا أصبح المسلمون خلوا سبيلهم في العسكر ليكونوا عند ذراريهم ونساءهم وكذلك إذا حصر المسلمون العدو جمعهم في موضع وجعل عليهم حراساً لأن الخوف يزداد منهم عند التقاء الصفين ويحتاج المسلمون إلى ان يأمنوا من جانبهم ليتفرغوا لقتال العدو وذلك إنما يحصل إذا جعل عليهم حراساً يحرسونهم فإن لم يقدروا على أن يحرسهم إلا بأجر استأجر الإمام قوماً يحرسونهم من الغنيمة لأن في هذا الاستئجار منفعة للغانمين فهو نظير الاستئجار على حفظ الغنائم أو على حفظ منفعة الغانمين فإن قيل: في هذا الحفظ معنى الجهاد فكيف يجوز الاستئجار عليه قلنا: لا كذلك فالقوم ذمة للمسلمين غير محاربين لهم فلا يكون حفظهم جهاداً ولكن يخاف من جانبهم أن يغيروا على غنائم المسلمين وأمتعتهم فلا فرق بين الاستئجار على حفظ الغنائم وبين الاستئجار على حفظ هؤلاء ومنعهم من اخذ الغنائم وقتل المسلمين. ولو أن مسلماً أهل العسكر في منعتهم أشار إلى مشرك في حصن أو منعة لهم أن تعال أو أشار إلى أهل الحصن أن افتحوا الباب أو أشار إلى السماء فظن المشركون أن ذلك أمان ففعلوا ما أمرهم به وقد كان هذا الذي صنع معروفاً بين المسلمين وبين أهل الحرب من أهل تلك الدار أنهم إذا صنعوا كان أماناً ولم يكن ذلك معروفاً فهو أمان جائز بمنزلة قوله: قد أمنتكم لأن أمر الأمان مبني على التوسع والتحرز عما يشبه الغدر واجب فإذا كان معروفاً بينهم فالثابت بالعرف كالثابت بالنص فلو لم يجعل أماناً كان غداراً وإذا لم يكن معروفاً فقد اقترن به من دلالة الحال ما يكون مثل العرف أو أقوى منه وهو امتثالهم أمره وما أشار عليهم به فهو من أبين الدلائل على المسالمة ألا ترى أنهم لو قالوا لهم: اخرجوا حتى تهدموا هذا الحصن فخرجوا كانوا آمنين. ثم استدل عليه بحديث عمر رضي الله عنه: أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو أن تعال فإنك إن جئت قتلتك فأتاه فهو آمن وتأويل هذا أنه إذا لم يفهم قوله: إن جئت قتلتك أو لم يسمع فأما إذا علم ذلك وسمعه وجاءه مع ذلك فهو فيء لأن دلالة الحال والعرف يسقط اعتباره إذا صرح بخلافه ألا ترى أنه لو قال: تعال إن كنت تريد القتال أو إن كنت رجلاً أو تعال حتى تبصر ما أفعله معك فإنه لا يشكل على أحد أن هذا كلام تهديد لا كلام أمان فأما قوله: تعال مطلقاً فكلام موافقة وكذلك إشارته بالأصابع إلى السماء فيه بيان أني أعطيتك ذمة إله السماء أو أنت آمن مني بحق رب السماء فهو بمنزلة قوله: أمنتك. ولو أن عسكر المسلمين في دار الحرب وجدوا رجلاً أو امرأة فقال حين وجدوه: جئت أطلب الأمان فإن لم يكن لهم علم به حتى هجموا عليه فهو فيء ولا يصدق في ذلك لأن الظاهر يكذبه فيما يقول فإنه كان مختفياً منهم إلى أن هجموا عليه وإنما يليق هذا بحال من يأتيهم مغيراً لا مستأمناً فالظاهر أنه يحتال بهذه الحليلة بعدما وقع في الشبكة فلا يصدق وإن كان ممتنعاً في موضع لا يقدر عليه المسلمون وهم يسمعون كلامه إن تكلم فأرادوه ليقتلوه فلما رأى ذلك لم يتكلم ولكنه أقبل فوضع يده في أيديهم فهو فيء وللإمام أن يقتله ولا يقبل قوله إني جئت أطلب الأمان لأنه حين أراد المسلمون أسره أو قتله كما متمكناً على أن ينادي بالأمان فيعلم أيؤمنونه أم لا وقد كان ممتنعاً في ذلك الموضع فحين ترك النداء بالأمان فهو الذي لم ينظر لنفسه بعد التمكن فالظاهر أنه أقبل راداً لقصد المسلمين فحين لم يتمكن من ذلك احتال بهذه الحيلة وإن لم يعرض له المسلمون بقتل ولا أسر فأقبل إليهم حتى أتاهم فهو آمن لأن إقباله إليهم دليل المسالمة فهو بمنزلة النداء بالأمان بخلاف الأول فإقباله بعد قصد المسلمين دليل على أنه قصد رد قصدهم بالقتال وأما إقباله قبل قصد المسلمين دليل على أنه قصد المسالمة ألا ترى أن تجارهم هكذا يكون الحال بينهم وبين المسلمين يدخلون دار الإسلام من غير أن ينادوا لطلب الأمان. وإن كان في منعة حيث لا يسمع المسلمون كلامه ولا يرونه فانحط من ذلك الموضع ليس معه أحد ولا سلاح حتى أتى المسلمين فلما كان حيث يسمعهم نادى بالأمان وهو في ذلك الموضع غير ممتنع من المسلمين فهو آمن لأنه أتى بما في وسعه من مفارقة المنعة والنداء بالأمان إذ كان بحيث يسمع المسلمون وألقى السلاح فالظاهر أنه جاء طالباً للأمان فهو آمن أمنوا أو لم يؤمنوا لأن الشرع أمن مثله قال تعالى: وإن كان أقبل سالاً سيفه ماداً رمحه نحو المسلمين فلما كان في موضع لا يكون ممتنعاً منهم نادى الأمان فهو فيء لأن الظاهر من حاله أنه أقبل مقاتلاً والحاصل أن البناء على الظاهر فيما يتعذر الوقوف على حقيقته جائز وغالب الرأي يجوز تحكيمه فيما لا يمكن معرفة حقيقته وإن كان يرجع إلى إباحة الدم ألا ترى أنه لو رأى إنساناً يدخل بيته ليلاً ولا يدري أنه سارق أو هارب من اللصوص فإنه حكم حاله: فإن كان عليه سيماء اللصوص أو كان معه آخر يجمع متاعه فلا بأس بأن يقتلهما قبل أن يدنوا منه وإن كان عليه سيماء أهل الخير فعليه أن يؤويه ولا يسعه أن يرمي إليه. والدليل على جواز تحكيم السيماء قوله تعالى: ولو وجدوا رجلاً عليه سلاحه في مؤخر العسكر أو عن يمينه أو عن شماله يعارض العسكر فلما بصروا به دعا الأمان كان فيئاً وللأمير أن يقتله لأن الظاهر من حاله أنه جاء متجسساً أو جاء على قصد أن يبيت بعض المسلمين وقد بينا أنه يؤخذ في مثل هذا بغالب الظن والرأي وإن أشكل حاله وليس فيه أمر يستدل به على أنه مستأمن ولا ما يستدل به على أنه غير مستأمن ولم يقع في القلوب ترجيح أحد الجانبين من حاله فإنه ينبغي للأمير أن يأخذه فيخرجه إلى دار الإسلام ويجعله ذمة لأن عند تحقق المعارضة وانعدام الترجيح يجب الأخذ بالاحتياط ومن الاحتياط أن لا يقتله ولا يجعله فيئاً لاحتمال أنه جاء مستأمناً وأن لا يرده إلى مأمنه لاحتمال أنه جاء مغيراً فلا يبطل حكم حرمته بالمحتمل ولا يجوز إراقة دمه به أيضاً. فيبقى حراً محتبساً في دارنا على التأبيد فإن أسلم فهو حر لا سبيل عليه وإن أبى وضع عليه الخراج وكذلك القوم من أهل الحرب يريدون دخول دار الإسلام ولا يقدرون على أن ينادوا بالأمان إلا في موضع لا يكونون فيه ممتنعين فنادوا بالأمان حين انتهوا إلى ذلك المكان فهم آمنون لأنهم أتوا بما في وسعهم. ولو كانوا أهل منعة جاءوا فاستأمنوا فإن شاء المسلمون أمنوهم وإن شاءوا لم يؤمنوهم لأن أهل المنعة في دارنا كهم في دار الحرب أو في حصونهم ولكونهم ممتنعين ولو كانوا مستأمنين كان للمسلمين أن ينبذوا إليهم إذا كانوا في منعتهم فيكون لهم أيضاً أن يمتنعوا من إعطاء الأمان لهم بطريق الأولى فأما غير الممتنعين لو كانوا مستأمنين لم يجز نبذ الأمان بيننا وبينهم حتى نلحقهم بمأمنهم فكذلك إذا جاءوا طالبين الأمان حتى صاروا غير ممتنعين منا إلا أن يكون أمير المسلمين تقدم على أهل تلك الدار من أهل الحرب أنه لا أمان لكم عندنا فلا يخرجن أحد منكم إلينا فإذا علموا بذلك فلا أمان لهم ومن جاء يطلب الأمان فهو فيء لأنه أعذر إليهم بما صنع وقد قال الله تعالى: ولو وجد المسلمون حربياً في دار الإسلام فقال: دخلت بأمان لم يصدق لأنه صار مأخوذاً مقهوراً بمنعة الدار فهو منهم فيما يدعي من الأمان وقول المتهم لا يكون حجة أرأيت لو أخذه واحد من المسلمين واسترقه ثم قال: كنت دخلت بأمان أكان مصدقاً في ذلك ولو قال رجل من المسلمين: أنا أمنته لم يصدق بذلك أيضاً لأنه أخبر بما لا يملك إنشاءه وقد ثبت حق جماعة المسلمين في منعه من الرجوع إلى دار الحرب واسترقاقه وقول الواحد في إبطال الحق الثابت بجماعة المسلمين غير مقبول. فإن شهد بذلك رجلان مسلمان غير المخبر أنه أمنه فهو آمن لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولا شهادة فيه للذي يقول: أنا أمنته لأنه يخبر عن فعل نفسه فيكون دعوى لا شهادة ولا شهادة فيه للذي يقول: أنا أمنته لأنه يخبر عن فعل نفسه فيكون دعوى لا شهادة ولا شهادة فيه لغير المسلمين لأنها تقوم على إبطال حق المسلمين وكذلك لو قال: أنا رسول الملك إلى الخليفة لم يصدق وكان فيئاً لأن هذا منه دعوى الأمان فإن الرسول آمن من الجانبين هكذا جرى الرسم في الجاهلية والإسلام فإن أمر الصلح أو القتال لا يلتئم إلا بالرسول ولا بد من أن يكون الرسول آمناً ليتمكن من أداء الرسالة فلما تكلم رسول قوم بين يدي رسول اله صلى الله عليه وسلم بما كان لا ينبغي أن يتكلم به قال: " لولا أنك رسول لقتلتك فتبين بهذا أن الرسول آمن ولكن بمجرد دعواه لا يصدق أنه رسول. فإن أخرج كتاباً يشبه أن يكون كتاب ملكهم وادعى أنه كتاب ملكهم فهو آمن حتى يبلغ الرسالة وإنما يثبت الأمان له هاهنا بغالب الظن فلعل الكتاب مفتعل ولكن لما لم يكن في وسعه فوق هذا لأنه لا يجد مسلمين في دار الحرب ليستصحبهما ليشهدا على أنه رسول من قبله يكتفى منه بهذا الدليل. فكذلك فيما سبق ولو لم يصحبه دليل ولا كتاب فأخذه واحد من المسلمين في دار الإسلام فهو فئ لجماعة المسلمين عند أبي حنيفة لأنه تمكن من أخذه بقوة المسلمين فهو بمنزلة من وجد في عسكر المسلمين في دار الحرب فأخذه واحد إلا أن هناك يجب فيه الخمس فيه رواية واحدة وفي هذا الفصل روايتان عن أبي حنيفة في إيجاب الخمس وعند محمد هو فيء لمن أخذه لأنه مباح في دارنا فمن سبقت يده إليه يكون محرزاً له مختصاً بملكه كالصيد والحشيش وفي إيجاب الخمس فيه روايتان عن محمد أيضاً والحاصل أنه عند أبي حنيفة رحمه الله يصير هو مقهوراً لمنعة الدار مأخوذاً حتى لو أسلم قبل أن يوجد كان فيئاً بمنزلة الأسير يسلم بعد الأخذ قبل أن يضرب الإمام عليه الرق وعند محمد رحمه الله لا يصير مأخوذاً بالدار ما لم يأخذه مسلم حتى لو أسلم كان حراً لأن الإحراز في الحقيقة يكون باليد لا بالدار ولهذا لو رجع إلى داره قبل أن يؤخذ كان حر الأصل فإذا أخذه إنسان كان مختصاً بملكه لاختصاصه بإحرازه فإن قال: إني أمنته قبل أن آخذه فهو آمن عند محمد لأنه في الظاهر عبد له وقد أقر بحريته ولا تهمة في إقراره وينبغي في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله أن لا يكون مصدقاً في ذلك لأن الحق ثابت فيه لجماعة المسلمين وهو غير مصدق في إبطال حقهم وإن لم يؤخذ بعدما أسلم في دارنا حتى رجع إلى دار الحرب فهو حر لا سبيل عليه أما على قول محمد فلا إشكال فيه لأنه لو لم يرجع كان حراً فكذلك إذا رجع وعند أبي حنيفة فلأنه وإن صار مأخوذاً لا يصير رقيقاً ما لم يضرب عليه الرق فإذا رجع إلى دار الحرب فقد انعدم عرضية الاسترقاق فيه وتقرر حريته في حال إسلامه فلا يسترق بعد ذلك بمنزلة الأسير يسلم وينقلب إلى عسكر أهل الحرب ثم يؤخذ بعد ذلك فكما يكون حراً هناك لا سبيل عليه فكذلك هاهنا. وإذا مر عسكر المسلمين بمدينة من مدائن أهل الحرب ولم يكن لهم بهم طاقة فأرادوا أن ينفذوا إلى غيرهم قال لهم أهل المدينة: أعطونا أن لا تمروا في هذا الطريق على أن لا نقتل منكم أحداً ولا نأسره فإن كان ذلك خيراً للمسلمين فلا بأس بأن يعطوهم ذلك ويأخذوا في طريق آخر وإن كان أبعد وأشق لأنهم لا يأمنون أن يتبعوهم فيقتلوا الواحد والاثنين ممن في آخريات العسكر وهذه الموادعة تؤمنهم من ذلك وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموادعة يوم الحديبية من الشرط ما هو أعظم من هذا فإن أهل مكة شرطوا عليه أن يرد عليهم كل من أتي مسلماً منهم ووفي لهم بهذا الشرط إلا أن انتسخ لأنه كان فيه نظر للمسلمين لما كان بين أهل مكة وأهل خيبر من المواطأة على ان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توجه إلى أحد الفريقين أغار الفريق الآخر على المدينة فوادع أهل مكة حتى يأمن من جانبهم إذا توجه إلى خيبر. فعرفنا أن مثل هذا الشرط لا بأس بقبوله إذا كان فيه نظر للمسلمين. فإن قبلوه ثم بدا لهم أن يمروا في ذلك الطريق فلينبذوا إليهم ويعلموهم بذلك لأن هذا بمنزلة الموادعة والأمان فيجب الوفاء به والتحرز عن الغدر إلى أن ينبذوا إليهم. فإن قال المسلمون: إن ممرنا في هذا الطريق لا يضرهم شيئاً قيل لهم: لعل لهم في هذا الطريق زروعاً ونخلاً وكلأ يحتاجون إليه ولا يحبون أن ترعوه أو لعل لهم مواشي ولا يحبون أن تعرضوا لها فإن قالوا: نمر ولا نتعرض لشيء من ذلك فإن هذا أسهل الطرق قيل لهم: وإن لم تأخذوا شيئاً فلعل القوم يكرهون أن تروا حصونهم ومواشيهم وتعرفوا الطريق إليهم فتأتوهم مرة أخرى بما رأيتم من العورة فليس لكم إلا الوفاء بما قلتم أو النبذ إليهم عملاً بقوله تعالى: فإذا احتاج المسلمون إلى ذلك الماء لأنفسهم أو دوابهم فلينبذوا إليهم ويخبروهم أنهم فاعلون ثم يشربون وكذلك الكلأ هو بمنزلة الماء لأنه غير مملوك لهم وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس شركة عامة في الكلأ والماء فلا تنقطع شركتهم بهذا الشرط إذا علموا أنه لا فائدة لهم فيه. فأما الزرع والأشجار والثمار إذا أعطوهم أن لا يتعرضوا لذلك فليس ينبغي لهم أن يتعرضوا لشيء من ذلك أضر بأهل الحرب أو لم يضر بهم لأن هذا ملك لهم ونفوذ تصرف الإنسان في ملكه بحكم الملك لا باعتبار المنفعة والضرر إلا أن يضطر المسلمون إليه فلينبذوا إليهم ثم يأخذون ويأكلون ويعلفون لأن بهذا الشرط لا تنعدم صفة الإباحة الثابتة في أملاكهم ولكن التحرز عن الغدر واجب وقد حصل ذلك بالنبذ إليهم وإن قالوا: أعطونا على أن لا تحرقوا زروعنا ولا كلأنا فأعطيناهم ذلك فلا بأس بأن نأكل منه ونعلف دوابنا لأن الوفاء إنما يلزمنا بقدر ما قبلنا من الشروط وذلك الإحراق والأكل ليس من الإحراق في شيء ألا ترى أنه يحل للإنسان أن يأكل ملكه ولا يحل له أن يحرقه وأهل الشام يكرهون الإحراق في أموال أهل الحرب ولا يكرهون التناول ولعلهم إنما شرطوا هذا الشرط لما في الإحراق من الفساد والأصل أن ما ثبت بالشرط نصاً لا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه. وإن سألونا أن لا نخرب قراهم فأعطيناهم ذلك فلا بأس بأن نأخذ ما وجدنا في قراهم من متاع أو علف أو طعام أو غيره ما ليس ببناء لأن التخريب يكون في الأبنية أما أخذ الأمتعة فمن الحفظة لا من التخريب ولعلهم كرهوا ذلك لما في التخريب من صورة الإفساد ولكن كل ما كان في قراهم من خشب أو غيره فليس ينبغي أن نعرض له وما كان من خشب موضوع ليس في بناء فلا بأس بأن نأخذه ونوقد به لأن هذا انتفاع وليس بتخريب وإنما الذي لا يحل بعد هذا الشرط هدم شيء من مساكنهم أو تخريبه بالنار لأن ذلك فوق التخريب فيثبت حكم الشرط فيه بطريق الأول وإن وجدنا باباً مغلقاً ولم نقدر على فتحه فلا ينبغي أن نقلعه قبل النبذ إليهم لأن هذا تخريب بخلاف ما إذا قدرنا على فتح الباب فإن فتح الباب ليس بتخريب فإن لم نقدر على فتحه إلا بكسر الغلق فليس ينبغي لنا أن نفعل لأن هذا تخريب والقليل والكثير فيما التزمناه بالشرط نصاً سواء. وإن شرطوا علينا أن لا نأكل من زروعهم ولا نعلف منها فليس ينبغي لنا أن نحرق شيئاً منها لأن الإحراق فوق الأكل في تفويت مقصودهم بالشرط فيثبت الحكم فيه بالطريق الأولى بمنزلة التنصيص على التأفيف في حق الأبوين يكون تنصيصاً على حرمة الشتم بالطريق الأولى وهذا بخلاف ما إذا شرطوا بأن لا يحرق لأن الأكل دون التحريق فإن الإحراق إفساد للعين والأكل انتفاع بالعين فإذا شرطوا كل فمقصودهم بقاء العين لهم وذلك ينعدم بالإحراق كما ينعدم بالأكل وإذا شرطوا أن لا نحرق لهم زروعاً فقدرنا على أن نغرقها بالماء فليس لنا أن نفعل ذلك لأن هذا في معنى المنصوص من كل وجه فإن كل واحد منهما إفساد. وكذلك لو شرطوا أن لا نغرقها فليس ينبغي لنا أن نحرقها وكذلك لو شرطوا أن لا نغرق سفينتهم ولا نحرقها لم ينبغ لنا أن نذهب بها لأن مقصودهم من هذا بقاء عينها لهم لينتفعوا بها وذلك يفوت إذا ذهبنا بها أرأيت لو شرطوا أن لا نحرق منازلهم ولا نغرقها أكان ينبغي لنا أن ننقضها فنذهب بخشبها وأبوابها هذا لا ينبغي لأنهم إنما أرادوا أن لا نستهلكها عليهم إلا أنه تعذر عليهم التنصيص على جميع أنواع الاستهلاك وذكروا ما هو الظاهر من أسبابه وهو التغريق والإحراق. ولو شرطوا أن لا نقتل أسراهم إذا أصبناهم فلا بأس بأن نأسرهم ويكونوا فيئاً ولا نقتلهم لأن الأسر ليس في معنى ما شرطوا من القتل فإن القتل نقص البنية ألا ترى أنه لا بأس بأن نأسر نساءهم وذراريهم وإن كان لا يحل قتلهم شرعاً وإن شرطوا أن لا نأسر منهم أحداً فليس ينبغي لنا أن نأسرهم ونقتلهم لأن القتل أشد من الأسر ومقصودهم بهذا الشرط يفوت بالقتل كما يفوت بالأسر. إلا أن تظهر الخيانة منهم بأن كانوا التزموا أن لا يقتلوا ولا يأسروا منا أحداً ثم فعلوا ذلك فحينئذ يكون هذا منهم نقضاً للعهد فلا بأس بأن نقتل أسراهم وأن نأسرهم كما كان لنا ذلك قبل العهد ألا ترى أن أهل مكة لما صاروا ناقضين للعهد لمساعدة بني بكر على بني خزاعة وكانوا حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نبذ إليهم فإنه سأل الله تعالى أن يعمي عليهم الأخبار حتى يأتيهم بغتة فإن فعل ذلك منهم رجل واحد لم يكن ذلك ينقض منهم لعهدهم لأن فعل الواحد لا يشتهر في جماعتهم عادة وليس لهذا الواحد ولاية نقض العهد على جماعتهم ألا ترى أن مسلماً لو ارتكب ما لا يحل في دينه لم يكن ذلك نقضاً منه لإيمانه ولو أن ذمياً فعل ذلك لم يكن نقضاً منه لأمانه فإن فعل ذلك جماعتهم أو أميرهم أو واحد منهم على وجه المحاربة وهم يعلمون بذلك فلا يغيرونه فحينئذ يكون نقضاً للعهد منهم لأن فعل أميرهم يشتهر لا محالة والواحد منهم إذا فعله مجاهرة فلم يغيروا عليه فكأنهم أمروه بذلك على ما قيل: إن السفيه إذا فعله مجاهرة فلم يغيروا عليه فكأنهم أمروه بذلك على ما قيل: إن السفيه إذا لم ينه مأمور ومباشرة ذلك الفعل على سبيل المجاهرة بمنزلة النبذ للعهد الذي جرى بيننا وبينهم. فإن شرطوا على أن لا نقتل أسراهم على أن لا يقتلوا أسرانا وأسروا منا أسارى فلم يقتلوهم فلا بأس بأن نأسر نحن أيضاً أسراهم ولا نقتلهم لأن هذا ليس نقض العهد منهم فإنهم التزموا بأن لا يقتلوا وما التزموا بأن لا يأسروا وإذا بقي العهد نعاملهم كما يعاملوننا جزاء وفاقاً وإذا دخل حربي دارنا بأمان فقتل مسلماً عمداً أو خطأ أو قطع الطريق أو تجسس أخبار المسلمين فبعث بها إلى المشركين أو زنى بمسلمة أو ذمية كرهاً أو سرق فليس يكون شيء منها نقضاً منه للعهد إلا على قول مالك فإنه يقول يصير ناقضاً للعهد بما صنع لأنه حين دخل إلينا بأمان فقد التزم بأن لا يفعل شيئاً من ذلك فإذا فعله كان ناقضاً للعهد بمباشرته مما يخالف موجب عقده ولو لم يجعله ناقض العهد بهذا رجع إلى الاستخفاف بالمسلمين ولكنا نقول: لو فعل المسلم شيئاً من هذا ليس بناقض لإيمانه فإذا فعله المستأمن لا يكون ناقضاً لأمانه والأصل فيه حديث حاطب بن أبي بلتعة فإنه كتب إلى أهل مكة أن محمداً يغزوكم فخذوا حذركم ولذلك قصة وفيه نزل قوله تعالى:
|